حجاوي الجمعة.. (مكنة) – صحيفة السوداني

المكنة هي الجهاز الذي يحرك الآلة صغيرة أم كبيرة ويدفعها للعمل، وهي كلمة مشتقة من إمكان، وهي الاستطاعة والشدة. أما عند الشباب فقد استخدموها مؤخراً للإشارة بالمدح للإنسان في شخصه أو عمله بمعنى انه يحمل صفات جيدة تكون محل تقدير الآخرين.
غير انني اكتشفت بالصدفة انها قد استخدمت في العامية السودانية منذ عشرات السنين وليس مؤخراً فقط كما ستعرف في نهاية هذا المقال.
سأستعرض هنا أمثلة لشخصيات سودانية تجسد هذا الإنسان العظيم الذي يستحق لقب “مكنة” فعلاً.
أول هذه الشخصيات هو الشيخ مصطفى الأمين وهو واحدٌ من كبار رجال الصناعة في السودان. ولد الشيخ مصطفى الأمين في “المتمة” منطقة “البلو” مركز قبيلة الجعليين العام ١٨٨٩م . توفي والده وهو فى سن الثامنة، فنشأ في حوش خاله عوض الكريم أبو نخيلة وعمل بالزراعة والرعي وهو في تلك السن المبكرة ولكنه خرج مغاضباً إثر خلاف مع عمه وترك كل ما ورثة من أرض لوالدته وإخوته.
يذكر كيف انه قد لف جلبابه حول رأسه ووضع ريالاً معدنياً هو كل ما يملكه بين أسنانه وعبر النيل سباحة للضفة الأخرى. من هناك توجه نحو حلفا حيث التحق بالسكة حديد عاملا كأول وظيفة يتقلدها في حياته. ولكنه لم يستسغ العمل الحكومي الروتيني بل أراد أن ينطلق في فضائه الخاص دون قيود، فترك الوظيفة واتجه للتجارة بين حلفا وأبوحمد، ثم ما لبث ان اتجه غرباً إلى كردفان حيث عمل فى تجارة الذرة في منطقة “الغبش”، وصدف ان كان الموسم جيداً وتوفرت كميات كبيرة من الذرة فقام بتصديرها إلى مصر، وكانت تلك هي بداية رحلته مع التصدير الخارجي.
ثم ما لبث ان افتتح محلاً تجارياً لبيع الزيوت التي كان يستخلصها من السمسم بالعصارات التي ارتفع عددها حتى وصل العشرين. هنا فكّر في تحديث صناعة الزيوت فاستورد الأجهزة من هامبورج في ألمانيا وأنشأ بها مصنعاً للزيوت في بورتسودان، ثم ما لبث أن أنشأ مجمع “أبا المعتصم الصناعي” في الباقير على مساحة 78 فداناً قام فيه بتصنع الزيوت والصابون والكرتون والبلاستيك، وهكذا امتدت تجارته كما يقول هو من الغبش إلى هامبورج.
ثاني هذه الشخصيات هو السيد محمد فتحي إبراهيم أو “مو إبراهيم” كما يسميه الخواجات.
ولد السد محمد فتحي إبراهيم في حلفا القديمة في 3 مايو 1946م، حيث تلقى تعليمه ما قبل الجامعي ثم سافر إلى مصر وفى جامعة الإسكندرية درس الهندسة الكهربائية ونال فيها درجة البكالريوس، ثم عاد للسودان حيث التحق بهيئة الأقمار الصناعية في جبل أولياء. رافق زوجته الطبيبة إلى بريطانيا التي قصدتها لكي تتخصص في أمراض النساء والولادة وهناك التحق بهيئة الاتصالات البريطانية B.T للعمل بقسم الهندسة، وعندما تولت السيدة مارجريت تاتشر رئاسة الوزارة قلصت عدد العاملين بالهيئة فاتجه لدراسة الماجستير في جامعة برادفورد وذلك في هندسة الإلكترونيات ثم الدكتوراة في هندسة الهواتف النقالة من جامعة بيرمنجهام. هنا بدأ شغفه بالهواتف يزداد ويقال إنّه هو من صمم أول تلفون نقال خارج السيارة. أنشأ شركة صغيرة للهواتف النقالة أسماها Celitel واستطاع ان ينميها حيث اتجه للدول الأفريقية التي كانت تفتقر إلى هذا النوع من الاتصالات فوصل عدد المشتركين فيها إلى 24 مليون مشترك ثم ما لبث ان باعها في العام 2005 بمبلغ 3.4 مليار دولار وبذلك دخل نادي المليارديرات فكان فى العام 2008 بحسب تصنيف فوربس الرقم 6 في قائمة المليارديرات العرب متقدماً على الراجحي وسعد الحريري. ثم أنشأ جائزة النزاهة وقيمتها 5 ملايين دولار وراتب شهري مائة ألف دولار تمنح سنوياً لأنزه رئيس أفريقي، بينما أنشأت زوجته الدكتورة هنية مرسي مستشفىً خيرياً لسرطان الثدي عند النساء يقع شمال غرب مول عفراء – جنوب الخرطوم.
الشخصية الثالثة تستحق الإشادة فعلاً، ففي منتصف الخمسينات أنشأت “مدرسة العيلفون الوسطى” كأول مدرسة وسطى خارج العاصمة المثلثة، لذلك أمّها الطلاب من شتى بقاع ولاية الخرطوم من الجيلي شمالاً إلى ألتي والمسيد جنوباً، ومن كترانج شرقاً إلى جبل أولياء غرباً. كان الطلاب الوافدون من خارج العيلفون ينقسمون إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى هي التي كانت تقيم بالداخلية، والفئة الثانية كانت لطلاب لهم أقارب في العيلفون فأقاموا معهم، أمّا الفئة الثالثة فهؤلاء ارتبط أهلهم بمسيد الشيخ إدريس ابن الأرباب فأقاموا في سكن خاص داخل المسيد وفّـره لهم خليفة الشيخ إدريس ابن الأرباب، وقد كان صاحبنا من هذه الفئة. كان يتقدّمنا بسنتين ولكنه كان طالباً مبرزاً للغاية يتقدّم زملاءه دائماً في الترتيب حتى استطاع دخول الثانوي بمجموع كبير ثم أحرز نتيجة مشرفة أهّلته للالتحاق بكلية طب جامعة الخرطوم. تخرج في الجامعة طبيباً، ولكن طموحه قاده إلى أبعد من ذلك فسافر إلى بريطانيا حيث تخصّص هنالك وعمل فى مستشفياتها فترة من الزمن التي انتقل منها إلى المملكة العربية السعودية وبعد ذلك رجع إلى وطنه السودان وكان قد تزوج كريمة أحد الوزراء وأنجب البنين والبنات ولكن ولاؤه ووفاؤه كان دائماً للعيلفون حيث انطلق من مسيدها إلى لندن مباشرةً ويا لها من سيرة حافلة مشرفة.
أما الشخصية الأخيرة فهي السبب في كتابة هذا المقال. كنت استمع إلى عمنا خلف الله حمد وهو يؤدي إحدى أغاني التراث وهي أغنية “الشيخ سيرو” وقد تفاجأت تماماً عندما سمعت الشاعرة تصف الشيخ ود بدر بـ”المكنة” والشاعرة هي “حوا حسب النبي” الشهيرة باسم “أم برعة بت الفحل” والمسماة على قريتها “سيال أم برعة” في الشمال قريباً من “جبل أم علي”. هاجرت “أم برعة” من قريتها فى الشمال إلى “أم ضواً بان” لتقيم في المسيد بالقرب من ضريح الشيخ ود بدر مع الحيران. كانت أم برعة تنحدر من أسرة (شاعرة) فزوجها أحمد ود عبد الملك كان مادحاً وناظماً للقصائد، أما ابنها عباس فقد نظم الشعر العاطفي الشعبي فتغنى له كثير من الفنانين مثل الفنان صلاح ابن البادية الذي غنى له:
أنا غنيت للستات
كان مرادي الانبساط
يا سيدي مع البنات
****
كان زواج الشيخ (وهذا اسمه الحقيقي) ويلقب بـ”النضيف” وهو الخليفة الشيخ ود الخليفة أحمد ود بدر وقد تزوج من بنت عمه الخليفة العباس الذي كان أحد وجهاء المنطقة وبهذه المناسبة تغنت “أم برعة” في السيرة قائلة:
النصيح حديدو
البدور الشيخ أنا بريدو
الشيخ سيرو
****
تلاته قدور سرتيه
تلاته قدور محلبيه
تلاته قدور صندليه
نسيبتو قالت شويه
حرمان ما يدخلن عليه
****
عينو حمره وشراره
مكمل فيهو الحراره
اتحكر في البقعه زاره
كمل كباد النصاره
*****
تغني أم برعة جابت وصوف
قالت قدحو لاقى الضيوف
الولد العالي ولاهو صوف
أب قلباً ما فيهو خوف
الشيخ (مكنة) وحجر الظُرُف
*****
وهكذا وصفت أم برعة الشيخ ود بدر بـ”المكنة” وذلك قبل عشرات السنين. والآن وقد تطهّرت ولاية الخرطوم من دنس البغاة الغزاة فإنني أرسل تحياتي من هنا من القاهرة إلى “المكنات” من أبنائنا وبناتنا الشبان والشابات في العيلفون الذين انتظموا الآن في صفوف متراصة ينظفون الشوارع ويُطهِّرون المنازل ويُعمِّرون الأسواق حتى تعود الحياة إلى طبيعتها ويعود السودان مزدهراً متقدماً دائماً وأبداً إن شاء الله
وسلامتكم.
*أعزي أهلي ونفسي في وفاة الأخ علي الشيخ إدريس الحبر رجل عابد زاهد كريم أجواد. التعازي لأبنائه وبناته ولإخوانه وأخواته، ولآل الحبر وآل نايل في العيلفون وبرانكو والخليج وأوروبا وأمريكا.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
** نبعث التهنئة لابننا أحمد “حمودتي” الشيخ إدريس بخيت العمدة بمناسبة الزواج السعيد. ونبارك لكل آل العمدة وآل عربى وآل بحري وآل مداحين وبالرفاه والبنين.
القاهرة – العيلفون
*واتس اب 00201117499444
Source link