متين العودة تاني؟!!!! – صحيفة السوداني

يحل رمضان هذا العام للمرة الثانية ونحن بعيدون عن ديارنا، نازحون مُهجّرون بسبب هذه الحرب التي فُرضت علينا فشتت شملنا كل في بلد، الأم والأب في كسلا، والابن فى جدة، والابنة في الرياض، وآخرون توسدوا الثرى في صحراء بيوضة والجبال القاسية بين أسوان وحلفا، رحلوا وعيونهم شاخصة للسماء وهم يكابدون الشوق لوطنهم ويرددون:
وطن النجوم أنا هنا
حدٌِق اتعرف من أنا
المحت في الماضي البعيد
فتى غريراً ارعنا؟
جذلان يمرح في حقولك
كالنسيم مدندنا
*****
يحل علينا رمضان والذكريات تتواتر كشريط سينمائي بالأبيض والأسود يهيج المشاعر ويلهب الأحاسيس. ورمضان الذي اذكره فى العيلفون هو رمضان فى كل بقاع السودان فى دنقلا وكوستي والأبيض وهيا وشنقلي طوبايا اختلفت الشخوص واختلفت بعض التفاصيل والمحتوى واحد.
تعود بي الذاكرة إلى طفولتي الباكرة والوالدة (رحمها الله) تحفزني على الصيام فتقول لي إنّ والدي (رحمه الله) قد بدأ الصيام كما ذكر لها وهو فى السابعة من عمرة فقلت فى نفسي: (أنا تقريباً فى نفس العمر فلأقتدي بوالدي وابدأ الصيام). اذكر أنني قد صحوت للسحور مع صوت النوبة يطوف بها عمنا “عبد الله اب ضُلُف” يتبادل ضربها معه ابنه “فتاح” بين أزقة العيلفون وشوارعها. والسحور فى فريقنا “فريق القبة” كان مناسبة صاخبة تأتيني رائحة القهوة من “حوش العجيمي” وفيه الأعمام والعمات ثم رائحة (الملاح والكسرة) فقد كان ذلك جُزءاً مُهماً من السحور ونسمع الأصوات من فوق الحوائط القصيرة من “حوش حمدنا الله” و”اولاد التومات” ومنزل “الجيلان عبد الصادق” و”بنات آمنة بخيته وساند الأمر”. اذكر أنني قد انسحرت بهذا الجو الروحاني العجيب وبقيت صاحياً حتى صليت الفجر وانا فى غاية السعادة وبقيت منتشياً هكذا حتى وقت الظهيرة حينها انهارت قواي وعجزت عن إكمال اليوم فأفطرت فى منتصف النهار ولا إثم علي فأنا لم أبلغ الحلم بعد!!!
تسبق رمضان استعدادات مهمة أولها (عواسة الآبرى) و”الآبرى” له قصة طريفة فقد تم اختراعة بالصدفة. كانت حبوبتنا “آمنة بت عبد الرازق ود الفحل” من بربر قد احتفظت بجوالات من “عيش الفتريتة” فى المخزن وعندما هطلت الأمطار تسربت المياه بين الشقوق فابتل العيش. قامت حاجة آمنة بتجفيف العيش وذلك لحوجتها له وطحنته وعندما أرادت ان تضعه على “الدوكة” وجدت مذاقه حلواً فأضافت له بعض البهارات التى اكسبته نكهة لاسعة ولم تدرِ حينها أنها قد دخلت التاريخ بابتداعها هذا المشروب الأسطوري العجيب الذي أُطلق عليه اسم “الحلو مر” وكان ذلك كما تحدثنا وثيقة موجودة فى “دار الوثائق المركزية” فى العام ١٨٦٠م.
كانت عواسة الآبرى مناسبة (قومية) تجتمع فيها نساء الحى كل يوم فى منزل يقمن بمساعدة بعضهن البعض فى (العواسة) وكان الرماد المتبقي من (العواسة) يجمع فى أحد أركان (التُكُل) وهو المطبخ حالياً ولا يتم تنظيفه حتى قبل يوم واحد من بداية رمضان ويسمى (يوم خم الرماد) غير أن بعض (المماسيخ) من الرجال قد جعلوه مناسبة فيجتمعون ليودعوا ايام البهجة والمسرة ويستقبلوا ايام العبادة والانقطاع للذكر فخلدوا هذه المناسبة. عمنا الشاعر الجاغريو قد كانت له (لمّة) يوم (خم الرماد) فى منزل امرأة اسمها “أم الأمور” مع ندمانة فأنشد قائلاً:
ام الأمور نحن جينا
وبالحاجات ارجينا
****
ام الأمور نحن جينا
والساعة عشرة تلقانا استوينا
****
ام الأمور نحن جينا
ومن رمضان ما علينا
****
اذكر ان كبار السن من النساء كن يقمن بالتوجيه، بينما تقوم الشابات بعملية (العواسة). فزارية بت الجيلان وبنات علي زينب وصلحة وعاشه بت فتانية وبتول بت الكيس وآمنة بت عبد الرحمن وخالتنا زينب رحمهن الله رحمة واسعة.
اذكر ان الجو ذلك العام كان حاراً جداً ولم تكن هنالك كهرباء فى العيلفون وبالتالي لا مكيفات ولا حتى مرواح!! واذكر ان حبوباتنا الرقاعة ونفيسة بت عبد الحكم (رحمهن الله) كن يبللن الثياب بالماء ويتغطين بها وكنت انا ادور بين الاثنين حاملاً (الهبابة) أحرك بها الهواء الساكن يمينا وشمالا حتى ينعم الله عليهن بالنوم. فى تلك الأثناء، كنت اسمع أصوات الصبية وهم يتجولون بين المنازل يبيعون الليمون يعرضونه بصوت منغوم: (ليمون يا ليمون) واذكر ان كل ثلاث ليمونات كانت بقرش صاغ يعنى الجنيه يشتري لك ثلاثمائة ليمونة!!! وكذلك المانجو التي كانت تباع بالكوم وذلك لأن الباعة كانوا يحضرونها من “سوق الملجة” فى الخرطوم حيث تباع الفواكه من (الدرجه العاشرة) الرخيصة والتى تناسب جيوب أهل الريف!!!! اما البرتقال فلا اذكر اننا قد عرفناه فى تلك المرحلة وانما كنا نسمع انه يُستجلب من لبنان ويباع للطبقات الراقية فى الخرطوم وبدلاً منه كان اهلنا يستعيضون بنوع من الليمون كبير الحجم اسمه “الليمون الحالي” لأنّ مذاقه فيه حلاوة.
وما ان يهل العصر حتى تدب الحركة فى المنازل ويبدأ الاستعداد على قدم وساق وتكون البداية عادةً بإرسال الأطفال لشراء الثلج، فلم تكن تكنولوجيا الثلاجات قد دخلت العيلفون بعد الا فى منزلين أو ثلاثة وكان يتم تشغيلها بالجاز الأبيض.
كان هنالك محلان أساسيان لبيع الثلج أحدهما امام دكان “ود الأمين” والثاني فى “دكان برجس” وقد كنت انا افضل الذهاب لدكان “برجس” لأن صاحبه مصطفى الشيخ ادريس المعروف بـ”برجس” كان رجلاً ظريفاً صاحب نكتة لذلك كان زبائنه أكثر.
ما ان يحل وقت الإفطار حتى يخرج الناس يحمل الشباب الصواني، بينما يفرش بعضهم المفارش فى الشوارع والساحات، واذكر اننا فى الفريق كنا نجتمع فى فسحة صغيرة تتوسط بيوتنا بين بيت الجيلان عبد الصادق وبيت الشيخ إدريس الكيس وبيتنا وكنا نحن الصغار نجهز المكان هجو الجيلان وعثمان العدس وعبد العزيز والتوم ود الأقلب ومحمد وجاغوم إبراهيم رملي وعبد المنعم حسن الجوم وشخصي. (رحم الله من توفى منهم) واذكر ان المؤذن الرئيسي كان عمنا “الميدوب” واسمه الحقيقى هو محمد احمد حمد عبد الله جراب الرأي وقد كان يؤذن من مبنى صغير مرتفع عن الأرض قليلاً فى الجهة الشرقية من المسجد قبل ان تبنى المئذنة الحالية، ثم تحول موضع إفطار الحي الآن إلى “حوش حمدنا الله” كما تغير الشخوص (يا سبحان الله) بأولاد الدرس وأولاد عبد السلام وأولاد قسم الفضيل وود الدعيتة وود الرقاعة وآخرين. كان ذلك حتى آخر رمضان قبل غزو البرابرة الوحوش.
ثم كانت المناسبة الأكبر وهي صلاة العشاء والتراويح حيث يتجمع كل اهل العيلفون فى مسجدين اثنين فقط هما مسجد الشيخ إدريس ابن الأرباب ومسجد الختمية قبل ان تنتشر المساجد بحمد الله في كل حي. ومع نهاية التراويح ينتهي اليوم ويأوي الناس إلى بيوتهم خصوصاً وان الكهرباء لم تكن قد دخلت العيلفون بعد.
الآن ولأول مرة منذ أن نشأت العيلفون يحل عليها رمضان وليس بها احد. تلك البلدة العامرة بأهلها وناسها قد أقفرت وأصبحت قاعاً صفصفاً. كل ذلك الضجيج والحياة النابضة قد اختفت بفعل مجرمين قتلة سفلة جاءوا من صحاري أفريقيا تحملهم احقادهم ونفوسهم المريضة الشريرة فعاثوا فى الأرض فساداً. شتتونا فخرجنا من ارضنا ومرتع صبانا ونحن لا حول لنا ولا قوة فنحن عزل مسالمون وهم أشرار مسلحون بأحدث الأسلحة.
ولكننا سنعود إن شاء الله وقد لاحت بشائر النصر بفضل قواتنا المسلحة والقوات النظامية الأخرى والمستنفرين الذين تأتيني تسجيلاتهم المصورة وهم يبدأون حملات النظافة وتطهير المنازل والطرقات تمهيداً للعودة الوشيكة إن شاء الله ونتمنى أن نسمع عن ذلك قريباً وربما كان عمنا الشاعر الجاغريو قد أحس إحساسنا منذ زمن بعيد فأنشد:
متين العودة تاني
يا الله الريد عتاني
العودة العودة تانى
يا حليفة ضراكى
انا قلبى باراكى
ومابنفع براكى
*****
يا قلبى سرارى
وفيك دافن اسرارى
حبيبتك ابعدوها
وسكنوها البراري
*****
ولكننا نطمئن عمنا الجاغريو ان عودتنا إلى حبيبتنا قريبة إن شاء الله و:
غداً نعود حتماً نعود
للقرية الغناء للكوخ الموشح بالورود
والأطفال ترقص والصغار
والنخل والصفصاف والسيال زاهية الثمار
وسنابل القمح المنور فى الحقول وفى الديار
حتماً نعود بعد أن يندحر العدو الغاشم وتعود أرضنا طاهرة مطهرة كما كانت أرض العُبّاد والزُهّاد والتُقٌابة ونار القرآن.
وسلامتكم،،
القاهرة – العيلفون
واتس آب 00201117499444
Source link