اخبار محلية

وتوشح الغناء بالسواد وأعلن الفن الحداد..! – صحيفة السوداني

* الناظر لسيرته والمُنقِب في مسيرته يدرك جيدا أنه من القلائل الذين قهروا الصعاب وذللّوا المستحيل وقفزوا فوق اسلاك الحياة الشائكة.. لم يصل لمكانته الرفيعة التي جعلته ملكا متوجا على سدة عرش التميز بسهولة كما يحدث مع كثير من (المغنواتية) الذين ابتسم لهم الحظ صدفة حينما عبس في وجه الرصانة والغناء والفنون.. واجه في بدأياته حروبا لا أول ولا آخر لها، ووضعوا أمامه متاريس عدة ليتغلب على كل العقبات.. صارع الإشكالات الحقيقية والمصنوعة وكانت له الغلبة.. تجاوز الضغوط النفسية التي يمكن أن تصل بالمبدع لدرجة أن يكفر بموهبته ويحطم (عوده) ويخاصم الغناء الى غير رجعة وهو في سنوات الكفاح الأولى..!

* كان إيمانه بموهبته في سنوات إثبات الذات أكبر من حجم ما يحاك ضده من عقبات ومكائد.. إرادته الصلدة الفولاذية جعلته ينهض كلما حاول البعض عرقلته.. كان أكبر من الصغائر؛ وأرفع من الدسائس؛ وأنبل من حسد الأنفس البشرية.. كان أقوى من المنافسة الفنية الشرسة في زمن إطلالته الأولى.. لا يبالي، لانه باختصار شديد رجل كامل الموهبة والإصرار والعزيمة والهمة.. فيا حزنك يا بلدي المفجوع لفقدانك فنانا بقامة وطن ومبدعا بشموخ أمة.

* الكتابة عنه والدموع تنهمر من المقل مدرارا تحتاج لصبر لا نملكه الآن.. الوقوف عند رحلته الممتدة يتطلب لغة مختلفة ومفردات مغايرة، وطرح غير مألوف، فهو من الذين أعادوا صياغة الثوابت الفلكية من جديد، وخرقوا عباءة العادي، وحطموا أصنام التقليدية، وكسّروا أطر النمطية..!!

* اذا أردت تعريفا شاملا للموهبة، فعليك أن تكتفي فقط بكتابة إسمه لأنها ستفضي مباشرة للتعريف الأمثل.. موهبته كالبحر هبة لا تٌصنع، وكالمطر منحة لا تُستجلب، لذا من الطبيعي أن يكون رمزا للإبداع يعرف قدر قيمته وجليل قامته كل صاحب حس فني وذائقة رفيعة..!!

* هو ملاذ عشاق الفن الأصيل في زمن تلوث فيه مناخ الغناء، وأعتقد البعض أن الموهبة (قرص إسبرين) يبتلعه الواحد منهم فيصبح بين طرفة عينٍ وإنتباهتها فنانا مضيئا منتجا يٌشار اليه ببنان الابداع..!!

* تفقد بلادنا المفجوعة بالحروب، والمُسممة بالمرارات الإجتماعية، والإحتقانات السياسية، رمزا فنيا لا تشبه جمال مسيرته الا روعة أغنياته، فنسألك تعالى أن تمنحنا الصبر على عظيم الفقد وجلل المصاب.

* انسل عن دنيانا في زمن الحرب اللعينة الموسيقار محمد الأمين حمد النيل الذي يعتبر عبقرية فنية لا مثيل لها، فالراحل بئر ابداع لا ينضب كلما نزلت الى أعماقه كشف لك عن أعماقٍ أخرى لا نهاية لها، فالرجل يمثل فصلا كاملا من تاريخ الفن؛ ويبقى الغناء السوداني الحديث واحدا منقوصا لا يكتمل الا به..!!

* رحل الموسيقار محمد الامين الذي كانت مسيرته بمثابة كفارة فنية لكل تشوهات الغناء على مر العصور والأزمنة فهو صاحب تجربة كاملة التميز والإختلاف.. أختار أروع القصائد، وأجمل الأشعار، وأميز الكلمات، وألبسها أردية لحنية مدهشة وقدمها للناس في طبق من جمال عبر اداء بديع.. إختط الباشكاتب محمد الأمين لنفسه مساراً فنيا خاصا.. اجتهد وتفانى واحترم الجمهور و(الذويقة والسميعة) تحديدا فبادله الناس إحتراما بإحترام، والتفوا حوله حتى بات (همس شوقهم) و(حلم أماسيهم) وحامل لواء آمالهم و(شمعة ضاوية في كل دار .. زهرة في كل المواسم كل يوم بتزيد نضار).

* يغمض محمد الأمين إغماضته الأخيرة وشوارع الخرطوم يلعلع فيها صوت الرصاص بينما خشبة المسرح الروماني بنادي ضباط قوات الشعب المسلحة الذي اعتاد الوقوف عليه مغلقة تماما، وجميع الطرق المؤدية للنادي (متربسة) بأمر الذخيرة والدانات؛ ولم يبق من ذاكرة ذاك المكان سوى حنجرة الباشكاتب المعتقة، وهيبة وقوفه على المسرح، ونبرات صوته يجلجل صداها المكان ويعم الأفق ويسد الأرجاء.. تتبخر كل التفاصيل لتبقى فقط صورة إطلالته الفخيمة وحضوره البهي وجبروته الفني المُهيب في الحفلات (الإنموذج) التي علمت الناس معنى أن يكون الفنان قامة في زمن تقزم فيه العمالقة وتعملق الأقزام.. زمن شاحب الوجه ومهيض الجناح (تفرعن) فيه قادة الخراب ورموز سلطة الأوهام الذين لا يستحقون أدنى عبارات التبجيل أو أقل معاني الإحترام..!!

* رحلة كفاح محمد الأمين منذ بدأياته وحتى مقاومته للمرض في السنوات الأخيرة وتجاسره من أجل إمتاع جمهوره تذكرني بأبيات شعر خطها يراع الشاعرة الأدبية الكويتية سعاد الصباح قالت فيها:

(كنا كبارا معه في كتب الزمان.. كنا خيولا تشعل الآفاق عنفوان.. كان النسر الخرافي الذي يشيلنا علي جناحيه إلى شواطئ الأمان.. كان كبيرا كالمسافات.. مضيئا كالمنارات.. جديدا كالنبوءات.. عميق الصوت كالكهان).

* نسأل المولى سبحانه وتعالى للموسيقار محمد الأمين الرحمة والمغفرة، ولأسرته الصغيرة وجموع محبيه وعاشقي الإبداع والفن الأصيل والشعب السودني قاطبة الصبر والسلوان.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).

   

نفس أخير

* في (اليوم الحزين) جانا الخبر وانشاع.. في الأربع قِبل ازرق طويل الباع..

تبكيك الخلوق بي اغزر الدماع.. دوبة (حليلك انت) اللي (الفنون) دراس.. غرار العبوس دار الكمال ونقاص.


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى