اخبار محلية

مستقبل الحرب في السودان.. فشل النخب وغياب المشروع الوطني من الاستقلال إلى 2023

بقلم: دكتور عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس السويد

الحرب التي اندلعت في السودان في أبريل 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي انعكاس لأزمة الدولة السودانية منذ الاستقلال. هذه الحرب ليست نزاعًا طارئًا، بل هي نتاج تشوهات سياسية وتاريخية متراكمة على مدار أكثر من ستة عقود.

دولة قامت على التهميش

عندما نال السودان استقلاله في عام 1956، ورثت النخب السياسية نموذج الحكم المركزي الذي أسسه الاستعمار البريطاني، حيث تمركز القرار السياسي والثروة في الخرطوم، بينما ظلت الأطراف مجرد خزانات موارد بلا تنمية حقيقية ولا مشاركة سياسية مؤثرة.

الدكتور عبدالوهاب الأفندي، أستاذ العلوم السياسية، يقول:
“السودان نشأ كدولة نخبوية مركزية، ترى الأطراف مجرد مصادر للثروة أو ساحات نفوذ سياسي، وليس جزءًا من مشروع وطني جامع. هذا هو جذر كل أزمة انفجرت لاحقًا.”

الديمقراطيات المدنية.. الفرص الضائعة

في الديمقراطية الأولى (1956-1958)، انشغلت الأحزاب التقليدية (الأمة والاتحادي) بالتنافس على السلطة وتوظيف الولاءات الطائفية، بينما تم تجاهل ملف التنمية المتوازنة تمامًا.

في الديمقراطية الثانية (1964-1969)، تكرر المشهد نفسه بعد ثورة أكتوبر، حيث ركزت الأحزاب على تصفيات سياسية مع نظام عبود، دون تقديم مشروع وطني شامل. أما في الديمقراطية الثالثة (1985-1989)، فقد استُنزفت البلاد في صراع أيديولوجي بين الإسلاميين واليساريين، بينما ظلت الأطراف خارج حسابات الحكم تمامًا.

العسكر.. القوة بدلًا من الحلول

الانقلابات العسكرية الثلاث (عبود – نميري – البشير) تعاملت مع أزمات السودان المتراكمة باعتبارها ملفات أمنية، وليس قضايا سياسية تحتاج لحلول جذرية.

الفريق المتقاعد محمد بشير سليمان، الخبير العسكري، يعلق قائلًا:
“الأنظمة العسكرية في السودان لم تأتِ بإصلاح سياسي أو مشروع وطني جامع، بل جاءت كإجراء مؤقت لضبط الصراع السياسي في المركز، تاركة الأقاليم تغلي على نار التهميش.”

ثورة ديسمبر.. حلم ضائع

مع اندلاع ثورة ديسمبر 2018، اعتقد السودانيون أن لحظة التغيير الحقيقي قد حانت، وأن البلاد ستدخل مرحلة إعادة تأسيس الدولة على أسس جديدة.

لكن النخب المدنية التي تولت الحكم بعد سقوط البشير أعادت إنتاج نفس الأخطاء، بحسب ما ترى الدكتورة ميادة سوار الدهب، القيادية السياسية، التي تقول:
“بدلًا من أن نؤسس لبرنامج انتقالي شامل يعالج جذور الأزمة، تحولت الفترة الانتقالية إلى محاصصات حزبية وصراعات داخلية على المناصب.”

المحلل السياسي حسن رزق يضيف:
“أخطر خطأ ارتكبته قوى الحرية والتغيير أنها تواطأت بالصمت على ملف الدعم السريع، وتركت حميدتي يتغول اقتصاديًا وسياسيًا حتى صار دولة داخل الدولة.”

الدعم السريع.. جيش موازٍ

تأسست قوات الدعم السريع في عهد البشير لقمع التمرد في دارفور، لكنها تحولت لاحقًا إلى قوة اقتصادية وسياسية مستقلة.

يقول الباحث الدكتور حيدر إبراهيم:
“حميدتي ليس مجرد قائد مليشيا، بل هو رجل أعمال يدير إمبراطورية ذهب وحدود، ويتحرك بدعم إقليمي قوي من دول خليجية، وهو ما جعل وضعه أكثر تعقيدًا بعد الثورة.”

الشراكة المدنية-العسكرية.. زواج بالإكراه

منذ توقيع الوثيقة الدستورية 2019، كان واضحًا أن الشراكة بين المدنيين والعسكريين هشة ومبنية على عدم الثقة.

السفير إبراهيم طه أيوب يقول:
“المدنيون لم يمتلكوا رؤية واضحة لإدارة الفترة الانتقالية، والعسكر اعتبروا أنفسهم وصيًا على البلاد، لذلك كان الانفجار حتميًا.”

أبريل 2023.. الحرب تنفجر

عندما اشتعل الخلاف حول دمج الدعم السريع في الجيش، تحولت الشراكة إلى مواجهة مفتوحة. لكن الحقيقة أن هذه الحرب ليست خلافًا تكتيكيًا، بل تجليًا لصراع طويل حول السلطة والثروة وتعريف الدولة نفسها.

أبعاد الحرب.. محلية وإقليمية ودولية
• داخليًا: صراع على النفوذ العسكري والاقتصادي.
• إقليميًا: مصر قلقة على أمنها المائي، ودول الخليج تتابع لحماية استثماراتها، وإثيوبيا تراقب ملف الحدود وسد النهضة.
• دوليًا: السودان تحول إلى ساحة منافسة بين واشنطن وموسكو وبكين، نظرًا لأهمية موقعه في البحر الأحمر.

التداعيات الإنسانية والاقتصادية
• نزوح داخلي وخارجي يتجاوز 10 ملايين شخص.
• انهيار كامل للخدمات الصحية والتعليمية والاقتصادية.
• تدهور تاريخي للجنيه السوداني.
• تدمير واسع للبنية التحتية في الخرطوم ودارفور.

السيناريوهات المحتملة
1. استمرار الحرب حتى يتحول السودان إلى دولة فاشلة تسيطر عليها المليشيات.
2. تسوية سياسية برعاية إقليمية ودولية، تتضمن إصلاحًا أمنيًا عميقًا.
3. مصالحات قبلية جزئية تهدئ بعض الجبهات، لكنها لا تعالج جذور الأزمة.
4. تدويل كامل للأزمة عبر قرار أممي وفرض قوات حفظ سلام.

القوات المسلحة.. جزء من المشكلة أم الحل؟

رغم محاولات تسييسها وتفكيكها عبر العقود، تبقى القوات المسلحة آخر مؤسسة وطنية جامعة يمكن إعادة بنائها ضمن رؤية وطنية جديدة.

الخبير العسكري عبدالله البشير يؤكد:
“لا يمكن الحديث عن حل دائم دون جيش وطني محترف يعكس التنوع السوداني ويحظى بقبول الجميع.”

السودان أمام لحظة الحقيقة

إما أن تنجح القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية في صياغة عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف الدولة ويحقق العدالة والتنمية المتوازنة، أو ينزلق السودان إلى سيناريو التفكك الكامل.

المؤرخ يوسف فضل يلخص الأمر:
“السودان لن يُحكم من طرف واحد بعد اليوم. إما أن يحكمه الجميع، أو يسقط على الجميع.”

ختامًا.. بين الخراب والفرصة الأخيرة
كشفت الحرب الحالية في السودان ليس فقط عن فشل النخب السياسية في إدارة الدولة أو حتى التوافق على وقف نزيف الدم، بل أظهرت أيضًا عمق الأزمة الوطنية التي ظلت مُغطاة لعقود تحت شعارات زائفة واتفاقيات هشة. لقد خلعت الحرب قناع الدولة المركزية وكشفت بوضوح عن حقيقة السودان المنقسم اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا. وبرغم المأساة الإنسانية والدمار الواسع، فإن أحد “فوائد” هذه الحرب -إن صح التعبير- أنها أجبرت السودانيين على مواجهة تاريخهم بدون رتوش. فالتهميش، والعنصرية السياسية، وغياب المشروع الوطني الجامع، وهيمنة المركز، والاحتكار السياسي والثقافي، كلها خرجت إلى العلن، ولم تعد مجرد ملفات للنقاش الأكاديمي، بل أصبحت أسئلة وجودية حول: أي سودان نريد؟ ومن يملك حق تعريف هذا الوطن؟

هذه اللحظة الفاصلة تضع السودانيين أمام خيارين: إما إعادة تعريف الدولة من خلال عقد اجتماعي جديد يؤسس لنظام عادل يحقق التنمية المتوازنة ويعترف بتنوع السودان الثقافي والعرقي والسياسي، أو استمرار الانزلاق نحو الفوضى والتفكك الكامل. التاريخ لن يرحم أحدًا، وأي محاولة لإعادة تدوير نفس النخب أو إعادة إنتاج نفس المعادلات ستعني ببساطة نهاية السودان كما نعرفه.

السودان اليوم ليس فقط في قلب الحرب، بل في قلب معركة مع نفسه: معركة ضد إرث الاستعمار والنخب الفاشلة، وضد الوهم بأن الحلول تأتي من الخارج، وضد عقلية المركز الذي يقرر ويأمر، بينما الأطراف تدفع الثمن.
هل تكون الحرب الأخيرة بداية لنهاية الدولة القديمة وبزوغ دولة جديدة، أم تكون آخر مسمار في نعش السودان الواحد؟

الكرة الآن في ملعب السودانيين، بكل مكوناتهم، وما يقررونه اليوم سيحدد مصير أجيال قادمة


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى