مقالات الرأي
أخر الأخبار

خلاصة مقتضبة لنظرية الاعراق البشرية وموقعها من حضارة وادي النيل

تاسيتي العظيمة كوش اصل البشرية السودان اصل الحضارة

خلاصة مقتضبة لنظرية الاعراق البشرية وموقعها من حضارة وادي النيل:-

 

بقلم : الاستاذ عماد حرزاوي

 

نظرية الاعراق البشرية قديمة قدم التاريخ فقد كان هناك مفهوم التقسيمات التوراتية (سام وحام ويافث) التي اسست لنظرية الاوروبيين للاعراق البشرية فيما بعد والتي مازالت مستمرة لكن علي استحياء بعد ان هدم صرحها العلم الحديث، كذلك يعتقد ان نظام الكاست الكوشي Cushitic Caste هو من ضمن النظريات العرقية (قدمائنا في وادي النيل قسموا العالم لأربعة اعراق عن طريق اللون وابرزوا ان لونهم الاسمر هو الافضل وسموا انفسهم _ريموتو_ وتعني خير أجناس الارض او البشر الحقيقيين وهذا موجود في لوحة الاجناس في مقبرة رعمسيس الثالث 1198-1168 ق.م) لكن رغم ذلك وبالتمعن في نظام الحكم القديم في وادي النيل والتكوين الاجتماعي الطبقي (ملوك، كهنة، نبلاء، عامة) فإن النظرية تندرج تحت بند الطبقية الاجتماعية المعتمدة علي الاقتصاد مثلها مثل الاشتراكية.

 

نظرية الاعراق مفهومها بإختصار شديد ان البشر عبارة عن مجموعات كبيرة متمايزة عن بعضها البعض بخصائص مورثة Genetically Transmitted رغم انهم بيولوجيا متحدرين من اصل واحد هو الانسان العاقل Homo Sapiens كما اوضح ذلك علماء الانثروبولوجي منذ وقت طويل كما انه ثبت علميا انه لا وجود لأساس بيولوجي او جيني للأعراق وان الخصائص المورفولوجية التي ارتبطت تقليديا واجتماعيا بالاعراق من قبيل لون الجلد ونوع الشعر من حيث النعومة والخشونة ليس لها علاقة بخصائص الذكاء والموهبة والقدرات وهو المفهوم الذي حاول اصحاب نظرية الاعراق في القرون الثلاثة الاخيرة الميلادية من الاوروبيين الايحاء به بمقولتهم ان لون الانسان وملامحه تدل علي مدي ذكائه وابداعه وان العرق الابيض متفوق علي العرقين الاصفر والاسود.

 

في القرنين التاسع عشر والعشرين (قرني الكلونيال) اشتدت وطأة نظرية الاعراق البشرية بربط العرق بالنظريات والايدلوجيات الاجتماعية والسياسية بعلم الانثروبولوجيا الطبيعية Physical Anthropology فظهرت نظرية العرق الشديد النقاء ومفهومه ان هناك اعراق نقية تماما ابتعدت عن الاختلاط البشري منذ فجر التاريخ وحافظت علي نقائها العرقي (مثال لها النازية الألمانية التي ادعت تفوق العرق الآري) ثم تم الاستقرار انثروبولوجيا علي تقسيم البشر الي ثلاثة اعراق كبيرة هي العرق القوقازي الابيض في شمال الكرة الارضية والعرق المنغولي الاصفر في شرق وغرب آسيا والعرق الافريقي الاسود في جنوب الكرة الارضية وزعم اصحاب هذه النظرية ان العرق القوقازي الابيض هو العرق الافضل والمهيأ فطريا لصنع الحضارة والتطور بينما العرق الاصفر تابع كسول (قصيدة جون الصيني خير مثال علي ذلك) وان العرق الافريقي الاسود ليس له اي اسهامات حضارية وقد خلق كمادة للاستعباد لكن هذه النظرية ضعفت علميا مع ظهور نظرية التطور الداروينية وتم استبدالها بنظرية تقسم البشر الي تسعة اعراق جغرافية لا تتناظر مع بعضها البعض وهي الأسترالي والأسيوي والأفريقي والأوروبي والبولينزي والميلانيزي والميكرونيزي والهندي والهندي الامريكي.

 

نظرية الاعراق اشتد وطئها اكثر عند تعمق الاوروبيين في اكتشاف حضارة وادي النيل ابتداءا من القرن الثامن عشر الميلادي خصوصا مع حملة نابوليون العسكرية علي مصر في اواخر القرن المذكور وانذهالهم بعظمة هذه الحضارة والادلة الدامغة علي ان صناعها من العرق الافريقي الذي طالما بخسوا حقه فإبتدأت التنظيرات التاريخية غير المعتمدة علي اي ارضية علمية رصينة وعلي مادة انثروبولوجية قليلة جدا لا تصلح لإنشاء نظرية علمية وفقا لأصول البحث العلمي الذي يتطلب تعميم النتائج بناءا علي الامثلة المجربة الصحيحة وتكرار التجربة الناجحة التي تعطي نفس النتيجة دائما (كانوا يأخذون اربعة او خمسة من الجماجم والعظام وعينات الشعر فيفحصونها ثم يقررون نظرية تشمل ملايين البشر وهذا غير صحيح فمثلا بعد ألف سنة اذا اتي عالم انثروبولوجي وفحص الجثامين في مقابر اليهود في الخرطوم 2 سيخلص الي ان السودانيين من العرق الاسرائيلي؟!).

 

في هذه الفترة برزت ثلاثة نظريات حاولت ان تحدد نوعية اعراق سكان وادي النيل في المنطقة التاريخية للحضارة الممتدة من الشلال الاول (اسوان) الي الشلال السادس (الخرطوم) وتخومها المتمددة في الشرق والبطانة وكردفان وسنار ثم تلتها في اواخر القرن الماضي نظرية رابعة هي المعتمدة حاليا رغم التشويش عليها من قبل بعض مناصري الافكار التاريخية الانثروبولوجية القديمة وهذه النظريات هي:-

 

1- النظرية الاولي القديمة التي تدعي تفوق العرق القوقازي فقد قال منظروا هذه النظرية امثال إليوت سميث ودوغلاس ديري وهيرمان يونكر وكرستين سايمون وسترهول الذين عملوا في المواقع التاريخية في جبانة الكرو ونبتة وكرمة ونوري والبركل ومروي واستندوا كذلك علي بحوث المؤرخين رايزنر ومكمايكل ان اصول سكان هذه المنطقة خليط من عرق قوقازي ابيض وعرق افريقي اسود ولكنهم عجزوا عن تحديد موقت هجرة القوقازيين واختلاطهم كما عجزوا عن تحديد من اين جاء العرق الافريقي وفي النهاية قالوا ان ملوك وادي النيل بخلاف الشعب من العرق القوقازي وكل ذلك ليغطوا عجز نظريتهم التي لم تعتمد علي بحوث علمية رصينة وانما كانت تهدف من البداية لتأكيد مفهوم معين هو التفوق العرقي القوقازي الاوروبي وهذا مخالف للحياد العلمي المعروف الذي يقتضي ان تأتي للبحث بعقل خالي من حكم مسبق وعلي العموم فقد تجاوز علم الانثروبولوجي الحديث هذه النظرية العرقية التي سادت في اوائل القرن الماضي.

 

2- النظرية الثانية اشهر القائلين بها هو الخبير الآثاري أراكل وهي تشبه النظرية السابقة ولكن مع تعديل بسيط فقد استبعد آركل العرق القوقازي واخترع عرق بُنّي اللون سماه جنس البحر الابيض المتوسط وخلطه مع عرق زنجي محلي وقال ان جنس البحر الابيض المتوسط يقف في الوسط بين الجنس القوقازي والجنس الافريقي ويرجع مصدره للجزيرة العربية (يقصد انه عرق سامي من العرب والاسرائيليين والاشوريين والكنعانيين الخ …) وهذه النظرية مثل نظرية فردية قديمة لشامبوليون مفكك شفرة حجر رشيد حاول ان يبرر بها معضلة انتفاء اي اثر للرجل الابيض في حضارة وادي النيل التي واجهتهم هو وزملائه من علماء المصريات فإخترع جنس اسطوري زنجي ابيض اللون؟!.

 

3- النظرية الثالثة وقد ظهرت في سبعينيات القرن الماضي ومن روادها الخبيرين الانثروبولوجيين قرين Greeneوجرفن Gerven وقد قامت علي انتقاد النظريات السابقة من واقع انه لم يتوفر للباحثين السابقين المواد العلمية الكافية لتعميم دراساتهم علي نحو علمي رصين ولم يستنبطوا استنباطات علمية دقيقة وكانت افكارهم خبط عشواء في اغلب الأمر وتفتقر لتحديد زمني دقيق ورغم ذلك لم يقدم اصحاب هذه النظرية اجابات مناسبة بشأن اصل شعب هذه المنطقة فقط ذكروا ان الاختلاط بعرق خارجي غير مؤكد وان الاختلاف في الهياكل والسحنات وحجم الجمجمة ونوع الشعر ناتج من التطور الطبيعي الحاصل في الحياة وفقا لنظرية التطور الداروينية ونتيجة للتحولات الحياتية من حياة الالتقاط والجمع والرعي المتجولة الي حياة الزراعة المستقرة.

 

4- النظرية الرابعة ومن اصحابها الخبير بيتر تشيني وبعض علماء الآثار السودانيين مثل احمد الحاكم قد تأثروا بمخرجات علم الوراثة الذي فتح فتحا مذهلا في باب العلوم البحثية الخاصة بالانثروبولوجيا وقد ذهبوا الي (ان شعوب هذه المنطقة هم نوع اساسي ومتميز وظل يسكن المنطقة نفسها وبدون انقطاع منذ خمسة آلاف سنة علي الاقل وربما اكثر من ذلك وانهم كانوا يشبهون الي حد كبير سكان المنطقة الحاليين) وقد وجدت هذه النظرية قبولا في الأوساط التاريخية العلمية لإعتمادها علي مخرجات أنثروبولوجية صحيحة وتجنبها اغلاط النظريات الأخري كما ان التفنيد التاريخي من قبل مؤرخين مميزين امثال مارتن برنال وجورج جيمس وانتا ديوب وايفان فان سيرتيما ويوسف بن جوخنان وفرانك سنودن للإدعاءات التاريخية التي اخفت الاصل الأفريقي لهذه الحضارة عن بسطاء الناس ساعد في تعضيد هذه النظرية بالإضافة الي ان التنقيب الحديث في المواقع الآثارية في المنطقة (مؤخرا الإكتشاف الأثري عن طريق البعثة السويسرية في موقع العفاض وارجاع الحياة في المنطقة الي 70000 سنة قبل الميلاد) والبحث العلمي للمواد البحثية من جماجم وهياكل عظمية ومستخلصات شعر اضحي يؤكد كل يوم هذه النظرية ويثبت اكثر واكثر ان سكان السودان بإمتداده التاريخي من اسوان الي سنار وعلي ضفتي النيل الرئيس والنيلين الأزرق والأبيض وامتدادهما في الشرق وسهول البطانة وسنار وكردفان هم شعب واحد متواجد منذ قديم الزمان ولم تطرأ عليه تغيرات إثنية (عرقية) هائلة بفعل هجرات خارجية ضخمة وكل التباينات الملامحية والهيكلية القليلة بينهم من قبيل التطور الحياتي المعروف في كل بقاع الارض.

 

الجدير بالذكر ان النظرية الأعم والأشمل والمأخوذ بها حاليا والمدعومة علميا لحياة الجنس البشري بوصفه نوع واحد يقف امام الانواع المختلف للكائنات الحية الاخري وان اختلافاته هي اختلافات في الدرجة وليس في النوع هي نظرية الخروج من افريقيا Out of Africa وهي التي تقول بأن الانسان العاقل الأول نشأ في افريقيا وبالتحديد في شرق افريقيا ووادي النيل وانه خرج في هجرات كبيرة علي مر ما قبل التاريخ ليعم القارات الاخري وبصفة اساسية جنوب الكرة الارضية، وتقف قبالتها نظرية النشأة المتعددة في انحاء الارض ولكن تم تفنيدها بعدم الحصول حتي الآن علي هياكل عظمية اقدم في امريكا وشمال اوروبا واسيا والاكتشاف الحديث حاليا الذي اوضح ان الاوروبيين كانوا حتي 8500 قبل الميلاد سمر اللون يعيشون كصيادين في جنوب اوروبا وخصوصا اسبانيا ثم اتي عرق اسمر ايضا من اسيا يحمل جينين متناظرين فإختلط بهم فتبيّضوا لاحقا مع العوامل المناخية الباردة في تلك المناطق والاصقاع الجليدية.

 

المراجع:-

 

** ورقة بحث حول الاصول العرقية لسكان السودان القدماء في منطقة النيل الاوسط تقديم البروفيسور سامية بشير دفع الله، قسم التاريخ، جامعة الخرطوم، منشورات 2013م.

** آراكل تاريخ السودان بالانجليزي 1960م.

** مارتن برنال، اثينا السوداء، الجزور الافروآسيوية للحضارة الكلاسيكية، الطبعة العربية 2004م.

** شيخ أنتا ديوب، الاصل الافريقي للحضارة الطبعة العربية 1974م.

** التوراة، العهد القديم، سفر التكوين.

** احمد محمد علي، هوية السودان الثقافية، منظور تاريخي 1990م.

** العرق والتاريخ، كلود ليفي شتراوس، كتيب للأونسكو 1952م.

 

#تاسيتي_العظيمة 

#كوش_اصل_البشرية 

#السودان_اصل_الحضارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى