اخبار محلية

سمر منزلي في وداع الباشكاتب لفائدة الجيل الجديد – صحيفة السوداني

بقلم/ د. عبد الرحمن الغالي

(1) التثاقف سبب الخصوبة الفنية
تستمد كلمة رتيب ورتابة في اللغة الانجليزية  monotony- monotonous جذرها من مركب كلمتين اغريقيتين  mono + tonos أي أحادي النغم أو النبرة. تعدد النبرات والمشارب والتلاقح هو ما يولد المتعة والخصوبة.
ومن المعروف أن التثاقف  Acculturation  التهجين التثقافي  transculturation  يحدثان في المجتمعات التي تتعرض لثقافة أو ثقافات مختلفة فيحدث فيها ذلك التأثير والتأثر. ليس غريباً أن تكون أن تكون المدن أكثر تعرضاً لذلك التثاقف والتهجين ولذلك كانت أم درمان، بعد تجربة اختلاط المجتمعات السودانية المتعددة موضعاً لتثاقف فريد، تشترك معها في ذلك ولدرجة أقل كبريات المدن السودانية: مدني لا سيما بعد قيام مشروع الجزيرة والأبيض وكسلا..ألخ.

امتزجت الخصائص الموسيقية الكبرى (مثل اللغة الموسيقية والهارموني والموازين والايقاعات) والصغرى (مثل الآلات والضبط والتدوين والخصائص الاجتماعية والسلوكية للأداء الموسيقي) لتلك المجتمعات وتفاعلت فأنتجت وما زالت تنتج فناً هجيناً مركباً من تلك الخلطات وأكثر تطوراً من مكوناته البسيطة.
والناظر لواحدة من أيقونات الغناء السوداني يميز بسهولة تطور ناتج ذلك الامتزاج، فمقدمة (عازة في هواك) مأخوذة من مارش (ود الشريف رايو كمل) وهو من بيئة دارفورية بينما اللحن الأساسي مأخوذ من أغنية شعبية اسمها (عمتي حواء).
من بيئة الجزيرة بخلطتها السودانية، مع المؤثرات العلمية والدراسة الموسيقية بفرقة بوليس النيل الأزرق والأثر المصري الكبير عبر الأسطوانات والأفلام المصرية خرج محمد الأمين وهو واعِ بكل تلك المكونات مستفيداً منها وموظفاً لها في مشروع فني واضح القسمات قصْدي الأهداف.

(2) جدلية التراث والمعاصرة:
كان محمد الأمين واعياً بأهمية التراث كمكون ثقافي وكقاعدة بناء وبأهمية الحفاظ عليه واستصحابه وتطويره واستلهامه. تجربة محمد الأمين الفنية تعامل فيها مع الكلمة التراثية مثل أدائه لأبيات الحاردلو ورباعيات الدوباي المختارة (جديات العسين – يا خالق الوجود) ومفاخر (عيال أب جويلي) ومناحة (غرارة العبوس) الخ. حيث قام بتلحين تلك التراثيات. وهناك التعامل مع التراث الغنائي الحديث نسبياً: الحقيبة حيث تراوح تعامله مع هذا التراث من التطوير مع الاحتفاظ باللحن الأساسي مثل (بدور القلعة لأبي صلاح) و (عازة الفراق بي طال للعبادي) أو ابتداع لحن جديد مثل (جاني طيفو طايف لعبد الرحمن الريح) و (من قليبو الجافي لقليبي الحان لأبي صلاح).

وهناك الاستلهام الموسيقي على شكل تضمين لألحان أغنيات التراث في أغنياته مثل مقطع الدوبيت في (زورق الألحان = عابر طريق لفضل الله محمد) وهذا المقطع أظنه مأخوذ إن صدق ظني من مقطوعة محمد آدم المنصوري والله أعلم. وفي أغنية (مراكب الشوق لمحمد الحسن دكتور) ضمّن لحن (المهيرة عقد الجلاد) وهكذا. وقد تلمس الأذن الموسيقية أثر أغنية العجكو في أغنية (إبل الرحيل لعبد الباسط سبدرات). واستفاد محمد الأمين من ايقاعات تراثية سودانية واستعمل إيقاع رق الحقيبة في إحدى أغنياته.
وعند محمد الأمين فإن حفظ التراث مهم ومعرفته مهمة للانطلاق منه بالتطوير.

(3) الجدية والدراسة مدخل التجديد:
كانت فكرة صقل الموهبة بالدراسة إحدى الأفكار المحورية عند محمد الأمين لا سيما في التلحين ذلك أن الدراسة تتيح معرفة المقامات والايقاعات وامكانات الآلات وأشكال الحُلي الفنية الخ.
علم محمد الأمين نفسه موسيقياً وكانت الدراسة والجدية في العمل هما مدخلا للتجديد الذي صادف استعداداً فطرياً لديه.
استخدم محمد الأمين كل الايقاعات المناسبة القادمة من الماضي (التراث) والقادمة من الخارج من الناتج الحديث المصري (مثل تأثره بهيكل الأغنية الطويلة في ألحان السنباطي ومحمد عبد الوهاب) والغربي. تدرج من القوالب الدائرية لقوالب جديدة مثل السوناتا، وتدرج بالمستمع من استخدام السلم الخماسي ثم أضاف الصوت السادس ثم السابع فصار يغني بسلم مكتمل. كل ذلك في صورة سودانية مقبولة للأذن السودانية في غير مناطق انتشار السباعي فيما يمكن أن أطلق عليه (قومنة السباعي أي نشره على المستوي القومي) وليس سودنته لأن السباعي موجود بصورة طبيعية في كثير من مناطق السودان كما هو معروف وكما وثّق له عبد القادر سالم في كتابه (الغناء والموسيقى التقليدية باقليم كردفان).
وتقف أغنية (زاد الشجون لفضل الله محمد) شاهداً على ولعه بالتجديد واهتمامه بالدراسة والتجويد، ذلك أنه لحّنها في 1965 ولكن لم يخرجها للجمهور لصعوبة تنفيذها على العازف غير الدارس، فانتظر حتى تخرّجت دفعتان تقريباً من معهد الموسيقى فخرجت للعلن في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.

ومن ما رواه لي الأخ الحبيب والصديق (عثمان النو) أن لمحمد الأمين أذناً موسيقية خارقة، فإذا أخطأ أي عازف من فرقته الكبيرة في حرف موسيقي فإنه يكتشفه ويلتفت إليه.
قاده ولعه للتجديد واستكشاف امكانات الآلات واستخدام كل الامكانيات الموسيقية لإضافة وتر سادس للعود.

(4) محمد الموسيقار:
محمد الأمين موسيقار ومؤلف موسيقي متفرد وأعتقد أن موهبته الأولى في التأليف والتوزيع الموسيقي ثم يأتي الأداء ثم الصوت ثم الكلمات. وهو صاحب مشروع فني موسيقي لذلك كانت كل أغنياته من ألحانه ما عدا أغنيتين فيما أعلم لم يلحنهما هما أغنية أو نشيد (المتاريس لمبارك حسن خليفة) من ألحان مكي سيد أحمد وأغنية قديمة هي (سبعة يوم واليوم سنة من ألحان عبد اللطيف خضر الحاوي).
وقد لحن هو لأبي عركي البخيت أغنيتين هما (وعد: بوعدك يا ذاتي يا أقرب قريبة) وأغنية (طريق الماضي: حلفنا نعيش لحاضرنا) وساهم بلمسات في أغنية عركي (شيل من بالك قول العاذل).

محمد الأمين يكتب بالموسيقى نصاً موازياً يشرح ويثري النص الأصلي وقد سمعت له حواراً وأنا في المرحلة المتوسطة تحدث فيه عن تداعي الأفكار اللحنية في ارتباط مع الكلمات وأشار لتشابه جمل موسيقية في أغنيتي (كلام للحلوة = لما شفتك) و(حروف اسمك) في ترابط مع المعنى والجو النفسي أو شيء من هذا القبيل. والأغنيتان للشاعر المبدع هاشم صديق.

(5) بعض اسهاماته لمسيرة الغناء السوداني:
لم يقتصر تجديد محمد الأمين على استكمال السلم الغنائي ولا إضافة الوتر السادس للعود ولا ابتداع الغناء الملحمي الجماعي باشراك عدد من المطربين والمطربات في عمل واحد وإعطاء أدوار فردية لكل منهم تارة، والأداء الجماعي الكورالي للفنانين مع كورس في رائعته (قصة ثورة) التي شاركه فيها الفنانون خليل اسماعيل وعثمان مصطفى وبهاء الدين أبو شلة وأم بلينة السنوسي وفيصل عبد الرحمن.
الفنانون المشاركون في الملحمة معروفون وبهاء الدين أبو شلة فنان جيد الصوت لم يشتهر كثيراً وهو صاحب الأغنية الجميلة (مهما أمري يهون عليك).
وقد أدخل محمد الأمين الآلات النحاسية التي عزفت عليها فرقة سلاح الموسيقى مع أوركسترا الإذاعة والتلفزيون. كانت فكرة الملحمة أن تكون مسرحية غنائية ولكنها خرجت كأروع ما تكون الملاحم بفضل عبقرية محمد الأمين الموسيقية وتوظيف الآلات وأصوات الفنانين وتوزيع الأدوار عليهم وعلى الآلات مع استخدام مختلف الحُلي الموسيقية.

(6) تجربة الغناء بآلة واحدة: الأورغن
غنى محمد الأمين فترة قصيرة بمصاحبة الاورغن مع بدر الدين عجاج ولم تستمر التجربة طويلاً. ولكنه أدخل بعد ذلك آلة الاورغن ضمن الأوركسترا الخاصة به. وبالطبع غنى في اللقاءات بمصاحبة العود فقط وهو من أمهر العوّادين في الوطن العربي.
وتجربة الغناء مع آلة واحدة دخلها قبله الفنان إبراهيم عوض مع آلة الجيتار ومن أغنياته الجميلة بالجيتار (في لمحة كان) للشاعر المُجيد (مصطفى عبد الرحيم) وهو شاعر (هات يا زمن للجابري) و(صحي اتغيرت انت = بقيت ظالم لزيدان) و(تذكار عزيز لإبراهيم عوض وهي الأغنية الوحيدة التي لحنها إبراهيم عوض).
وكذلك غنى علي إبراهيم اللحو مع آلة واحدة هي آلة الفلوت.
أما غناؤه الوطني فمعروف وأناشيده في ثورتي أكتوبر وأبريل معروفة وغناؤه الفصيح كثير ومعروف ولا نود الاطالة في هذه الاستراحة السريعة.
رحم الله محمد الأمين وأعاد لنا سوداننا غنياً بتنوعه ومتآلفاً

* الصورة من صفحة الفنان عماد عبد الله
Emad Abdulla


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى