اخبار محلية

الحب في زمن الكوليرا – صحيفة السوداني

عنوان المقال مأخوذٌ من رواية لكاتب من أمريكا الجنوبية، سنتطرق إليها لاحقاً وقد لا تكون لمضمونها صلة مباشرة لما سنتطرق إليه، ولكنه في الظاهر يشير إلى المتناقضات والمفارقات والمفاجاءات التي تخبئها لنا الحياة في منعطفاتها ومنعرجاتها المختلفة فتترك بصماتها واضحة وربما تعدل أو تغير المسار تماماً.

أولى هذه الحكايات بدأت احداثها في ستينيات القرن الماضى في مدينة بورتسودان، آنذاك كانت المدينة تعج بأجناس مختلفة من شوام وأقباط وإغريق وحضارمة وهنود عاشوا كلهم فى مجتمع متآنس متجانس. من هؤلاء كانت فتاة إغريقية فاتنة تلفت الانظار اسمها “جورجيت”. كانت “جورجيت” حورية على الأرض يعرفها كل سكان المدينة بالقوام اللادن والشعر المنسدل على الكتفين والابتسامة الساحرة، وقد كانت تقتني عجلة ماركة “رالي” تجوب بها المدينة من أعلاها إلى أدناها، وفي كل منعرج ومنعطف وشارع يقابلها الناس بترحاب وود.
فجأةً أطل على مجتمع المدينة شاب وسيم ممشوق القوام منقولاً إلى احدى المصالح الحكومية في المدينة. في أثناء غدو الشاب ورواحه بين المكتب والمنزل لفت انتباهه منظر هذه الفتاة الفاتنة تتهادى بالعجلة في دلال وغنج. لم تنتبه الفتاة في البداية لنظرات الإعجاب التي كان يرمقها بها الشاب ولكن سرعان ما لاحظته وهو يلاحقها بنظرات ولهانة هيمانة حتى تختفي من ناظريه، ثم ما لبثت الكيمياء بين الشابين اليافعين أن (عملت شغل) فانجذبا بشدة وبسرعة شديدة. تحولت نظرات الإعجاب إلى تبادل الابتسامات ثم الكلمات ثم تطورت إلى لقاءات بعيداً عن العيون.

اشتعل بين القلبين الشابين حب جارف اخترق حواجز الدين والعادات والتقاليد ثم ما لبثا أن تعاهدا عهداً وثيقاً ان يكون كل منهما للآخر للأبد. واجهت الفتاة معارضة عنيفة من أهلها، عندما فاتحتهم بالموضوع في البداية ولكن لما كانت تتمتع به من عقل راجح ومكانة أثيرة عند والديها ما لبثت أن نالت موافقة الأسرة وهي تتمثل قول نزار قباني:
اني عشقتك واتخذت قراري
فلمن اقدم يا ترى أعذاري
لا سلطة فى الحب تعدل سلطتي
فالرأي رأيي والقرار قراري
هذي أحاسيسي فلا تتدخلي
ارجوك بين البحر والبحار
*****
طار الشاب فرحاً بذلك ثم (يمم) وجهه شطر قريته و(طار) أيضاً لينال مباركة والديه هو الآخر، غير انه للأسف وجد أذناً صماء من الأب ورفضاً باتاً لهذه الزيجة، بل هدده والده بأنه لن يرضى عنه أبداً وسيقاطعه ويخرجه من حياته للأبد. أسودت الدنيا في عيني الشاب وأصيب باكتئاب وهم وغم وبقي منعزلاً لفترة طويلة حتى باغته الأب بأن عقد قرانه على بنت عمه. كان الشاب قريباً من والده جداً ولم يكن ليعصي له أمراَ مهما كان فرضخ أخيراً واستسلم لقدره المحتوم وبدأ يمارس حياته محاولاً نسيان حبه الأخضر، ولكن كما يقولون (البعيد عن العين بعيد عن القلب) فخفت الحب وإن لم يختف تماماً وظلت ناره متقدة بين الضلوع.
على الجانب الآخر، انتظرت الفتاة حبيبها عله يعود ليبنيا بيتاً من الود والحنان، ولكنها ما لبثت أن سمعت بزواجه من قريبته فأصيبت بصدمة نفسية عميقة اعتزلت على إثرها الحياة والناس وعافت نفسها الأكل والشراب فابتعدت عن الناس جميعاً حتى أقرب الأقربين. وبعد زمان طويل وعندما خرجت كانت (شيئاً) مختلفاً تماماً. ذهب البهاء والصفاء فشحب الوجه وشاب الشعر وزاغت النظرات الحالمة. بدأت الفتاة تنسحب من الحياة شيئاً فشيئا وأصبحت تعيش فى عالم آخر كأنها تخاصم هذا العالم الذى حرمها سعادتها وحلم حياتها، ثم بدأ الناس يرونها تلتقط الأوراق المرمية على الطريق تحملها معها للمنزل، قالوا إنها كانت تأمل أن تجد خطاباً من الحبيب محمد يبشرها فيه بقدومه للم الشمل!!!!….

لقد ذهب عقل الفتاة وأصيبت بالجنون وأصبح منظرها مثيراً للشفقة والرثاء. هنا جاء دور القدر ليزيد من عمق المأساة. توفي والد الفتى فأيقظ ذلك حبه لفتاه من جديد والآن بعد أن أصبح حراً يمّم وجهه شطر الشرق قاصداً أرض الحبيب. وبمجرد أن وصل بدأ رحلة البحث عن محبوبته وكان كل من قصدهم من معارفه القدامى ليدله على مكانها ينظر إليه في أسى وحزن ولا يجيب حتى دله أحدهم على مكانها. خف سريعاً يحمل آمالاً عراضاً وشوقاً لا يحدّه حدودٌ للقاء الحبيب وعندما وصل المكان واقترب من المحبوبة لم يصدق عينيه!!!. وجد شبحاً هزيلاً بملابس رثة وشعر اشتعل بالشيب ينقب فى الأوراق القديمة الملقاة على قارعة الطريق. هتف باسمها بصوت مخنوق وأمل ورجاء. رفعت الفتاة رأسها عندما سمعت الصوت ولكنها لم تتعرّف على صاحبه ورميته بنظرة فارغة كأنها تنظر لشبح او مخلوق هبط من الفضاء ثم واصلت تعقيبا في الأوراق القديمة علها تجد حساباً من الحبيب. كانت الصدمة كبيرة على الشاب فمرض، ويقال إنّه توفي بعد فترة قصيرة وما لبثت أن تبعته حبيبته وانسدت الستار على قصة حب انتهت كما تنتهي الأساطير الأفريقية.

الشيخ قول لي وين الريدو نارو حرقنا
ووين الشوقو من نوم الليالي سرقنا
وين الليهو باذلين النفيس وعرقنا
ووين الشانو ودّعنا العزاز ومرقنا

*****
القصة التالية عن مفارقة كادت أن تغير مسار حياة أحد الأصدقاء. كان هذا الصديق يعمل معلماً ثم لما وجد أن العائد المادي قليل اتجه للعمل في (سوق الله أكبر) فتحسنت الأحوال قليلاً وانتعش الجيب ولكن ما لبثت أن (هبت ثورة الإنقاذ وقام الجيش للشعب انحاز) فأصاب القطاع الاقتصادي ركودٌ تامٌ يصاحب دائماً بدايات أي تغيير سياسي وكادت حركة السوق أن تتوقف تماماً. ساءت الأحوال (ورجعت حليمة لعادتها القديمة) و(انقد الجيب) مرة أخرى. بقي صاحبنا حزيناً ينتظر فرج الله الذي ما لبث أن هل فجأةً، فقد دله صديق على إعلان لشركة كبيرة في الخليج ترغب في تعيين معلمين وهو مجال تخصصه. أسرع لمقابلة اللجنة المسؤولة وما لبث أن اجتاز كل المعاينات ولم تتبق إلا عقبة واحدة. اشترطت اللجنة أن تكون المهنة في الجواز معلماً، وبما أنه كان قد غيّر المهنة إبان عمله في التجارة، فقد كان لزاماً عليه تغيير المهنة مرة أخرى. كانت المهلة الممنوحة له قصيرة جداً، لذا قصد أحد أقربائه الذين يعملون في الشرطة. في اليوم المحدد وكان آخر أيام التقديم للوظيفة استيقظ من النوم مبكراً، ثم تهندم وتنظم قاصداً قريبه فى وزارة الداخلية، وعندما هَـمّ بالخروج تلقى مكالمة عاجلة من أحد الأقرباء يخطره فيها بأن الشقيق الأكبر لذلك الضابط قد توفي فجأة بعد أدائه صلاة الصبح، وأن كل محاولاتهم لإبلاغ الضابط بالخبر قد باءت بالفشل، ويطلب منه أن ينقل إليه هذا الخبر الحزين. أسقط في يد صاحبنا فلو أنّه أخطر الضابط بوفاة شقيقه الأكبر لانشغل بذلك، بل إنّه لن يداوم أساساً، وبذلك تضيع عليه فرصة تغيير المهنة فى الجواز، وبالتالي تطير فرصة الوظيفة!!! توكل على الحي الذي لا يموت وقصد الوزارة وقابل الضابط عادي، وتم تغيير المهنة عادي، ثم شكره وغادر عادي، وفي المساء ذهب له في منزل العزاء وقام بالواجب عادي!!!

***
القصة التالية حدثت في رومانيا فى بداية ستينيات القرن الماضي. كان “فاسيلي جورجيوس” مزارعاً ريفياً يزرع القمح ويرعى الماشية فى مزرعة بإحدى القرى حيث يعيش هو وعائلته في منزل صغير جميل. كان راضياً بحياته سعيداً بها يقضي يومه فى الحقل ثم يجتمع أسرته فى المساء على مائدة العشاء فيتسامرون ويتناقشون فى أمورهم الحياتية، ثم عندما يجن الليل ينصرفون إلى مهاجعهم مسرورين سعيدين. كان “فاسيلي” يقصد المدينة كل شهر يتبضع بما يلزم المزرعة والمنزل معاً مستقلاً القطار. فى أحد الأيام ابتاع تذكرة ثم غادر المنزل بعد ان ودع زوجته على أمل أن يعود آخر النهار بما لذ وطاب من الطعام والشراب، غير أن اليوم انقضى ولم يظهر “فاسيلي”، وكذلك اليوم التالي واليوم الذي يليه. هنا جن جنون الزوجة فقصدت مركز الشرطة وأبلغتهم باختفاء زوجها فى ظروف مريبة!!! بدأت الشرطة رحلة البحث عن فاسيلي فى كل المدن القريبة ولكن دون جدوى. أخيراً تم حفظ البلاغ (cold case) واعتبرت الأسرة ان السيد “فاسيلي” قد تعرض لحادث سطو من لصوص حاولوا نهب أمواله وعندما قاومهم قتلوه فأقاموا له مراسم عزاء انتهى بأن عادت الحياة إلى طبيعتها فى المزرعة والمنزل بعد حين، ونسي الناس “فاسيلي جورجيوس”. بعد ثلاثين عاماً وفى أحد أيام سبتمبر من العام ١٩٩٠م توقفت عربة فجأة أمام منزل فاسيلي، وترجل منها رجل عجوز قرع الجرس. فتحت الزوجة الباب فتفاجأت بعجوز تبينت فيه ملامح زوجها والغريب انه كان يرتدي نفس الملابس التي خرج بها قبل ثلاثين عاماً!!!!. كان نظيفاً ومرتباً ومهندماً وبصحة جيدة، غير أن الرأس كان قد اشتعل شيباً وظهرت عليه علامات الكبر. أدخلت الزوجة زوجها للمنزل وكانت المفاجأة انه لا يتذكر أي شئ لا اسمه ولا اسم زوجته أو أولاده ولا أين كان كل هذه المدة. انمسح كل ما كان فى عقل الرجل واصبح (فارغاً كفؤاد أم موسى). المشكلة ان السيارة التي أقلته إلى منزله كانت قد انطلقت بسرعة فائقة ولم يستطع أحد أن يلتقط الرقم ولا أن يتبين ملامح السائق. وهكذا اصبحت قصة “فاسيلي جورجيوس” لغزاً من الغاز العصر.
رجوعاً لعنوان المقال، فإنّ “الحب في زمن الكوليرا” للكولومبي (غابريل غاسيا ماركيز) وهو كاتب وناشط سياسي فاز بجائزة نوبل للآداب في العام ١٩٨٥م وهي تحكي قصة حب أسطورية بين اثنين ظل الحب بينهما مشتعلاً منذ أن كانا فى السابعة عشر حتى وصلا سن السبعين، وقد اجتازا به كل مصاعب الحياة ومتاعبها، نشبت حروب وانتشرت أوبئة وأمراض وهما على حالهما من الحب والوجد، وتنتهي القصة والحبيبان على زورق وردي يطوف بهما وقد تعانقت نظراتهما فى حب أبدي وهذه من المفارقات النادرة. نتمنى أن يعم الحب والإخاء والرخاء وطننا العزيز بعد انجلاء العاصفة.

في هذا العيد السعيد نترحم على آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وزوجاتنا وأبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا وكل أمواتنا وأموات المسلمين. رحمهم الله رحمة واسعة وغفر لهم وأسكنهم جنات النعيم.
وسلامتكم.

*انتقل الى الرفيق الأعلى زوج أختنا الأستاذة سكينة محمد علي حفيدة ود الازيرق المرحوم عباس الشيخ إدريس الحسن ملاك “ود الطقيم”. العزاء للأهل فى أم قحف والعيلفون وفى كل مكان.
*وكذلك انتقل الى الدار الآخرة ابننا معاذ حاتم حسن الشيخ ابن الخالة الأستاذة حياة التوم محمد الشيخ فذهب مبكياً على شبابه. العزاء لكل الأهل آل صبير العاص بالعيلفون وفي كل أنحاء العالم.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
القاهرة – العيلفون
*واتس 00201117499444


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى